كن كالشمس واضحاً ومضيئاً
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
في عصرنا هذا تختلف المصالح، وتتنازع الصراعات،
وأصبح الهدف هو تحقيق المصلحة الذاتية؛ فانعدمت الثقة، وانحل الترابط،
وانفك التعاون، وأصبح كل فرد لا يرى إلا نفسه ومصلحته الشخصية، وماذا يريد، وإلى أي طريق يهدف، دون النظر إلى الفائدة الكلية والنفع العام.. المهم أنا وبعدي الطوفان!
فأصبحت الصورة السائدة محاولة الحصول على الشهرة والطمع الذي لا حد له، ولا ينتهي أبدا. وبدأ يتسرب وينتشر في المجتمع كالوباء؛ فأصبح الابن يقتل والديه، والأخ يستغل أخاه، والصديق يكيد لصديقه، والجار يؤذي جاره، كأن لم يعُد في هذه الحياة إلا الفساد وصوره، أما النعيم فللأقوى.
وفي الجانب الآخر من المجتمع صورة أخرى تجعلنا نطمئن، ونهدأ بالا، وتستريح نفوسنا، وهي وجود فئة مؤمنة ترى كل أنواع الفساد، وتسخر منه، قلوبها مطمئنة بذكر الله، مليئة بالإيمان العامر، واثقة من نصر الله.
هذه الفئة المؤمنة تميل إلى التأمل والتعمق في حقائق الأشياء، داعية الله -عز وجل- أن يعينها، وينير بصيرتها إلى الحقيقة؛ فترى كل صور الفساد، وتتأمل، وتسأل نفسها:
هل من الممكن أن ينتصر الشر على الخير؟
هل من الممكن أن يستمر المفسدون في الأرض ينعمون بينما المؤمنون يتألمون؟
هل من الممكن أن يكون النعيم من نصيب المفسدين، أما قسمة المؤمنين فهي الآلام؟
وفجأة ترتسم الابتسامة على وجوههم؛ فيقولون بكل ثقة: لا لا لن يطول هذا أبدا، وسينتهي هذا الفساد، وسيحل محله النور والأمان؛ فالله عز وجل يفتن هؤلاء المفسدين في الأرض بالنجاح والتمتع بنعيم الحياة ليعذبهم ويمهلهم إلى أجل مسمى يعرفون فيه أن وعد الله حق، وأنهم ظلموا أنفسهم، وخسروا الدنيا والآخرة.
أما المؤمنون فسينعم الله عليهم بالسكينة والاستقرار جزاء على صبرهم، ولهم ما يشاءون عند ربهم، ويمن الله عليهم بالقرب والرضا في جنات النعيم.
الداء والدواء
إن هذه الفئة المؤمنة واثقة من هذه النتيجة، وليس عندهم أي شك في ذلك، ولكنهم يجدون أنفسهم وهم غارقون في بحار التأمل وأعماق البحث يتساءلون:
إذن فما معنى هذا الذي يحدث؟ ولماذا وصلنا إلى هذه المرحلة من الفساد؟
وأخيرا بعون الله وحده وصلوا إلى الداء، ومنحهم الله عز وجل الدواء، أما داء هذا العصر فهو الافتقاد إلى القدوة، كل صور هذا الفساد تحدث، وسيحدث أكثر من ذلك؛ لأن هدفنا هو المصلحة الشخصية، ونفتقد إلى القدوة التي يجب أن نقتدي بها.
أما الدواء فهو أنه يجب على كل فرد أن يكون قدوة لمن حوله، وأن يكون الهدف هو الله؛ فيجب أن يكون الرجل قدوة في بيته. والأم قدوة لأولادها. والكاتب قدوة في كتاباته، وفي تجسيده للشخصيات التي يكتبها، وتصويره للقيم والمبادئ التي يجب التحلي بها. والصحفي قدوة في فهمه للأمور، ومحاولة تصحيحه للأوضاع، وإبراز مساوئ العصر الذي نعيشه، وكيفية علاج هذا المساوئ.
إن الكلمة أمانة ورسالة؛ فإذا لم يستطع الكاتب أو الصحفي أن يتحملها ويؤديها بكل شجاعة بعيدا عن أي رغبات أو أهواء شخصية؛ فلا داعي لأن يمسك القلم ويكتب؛ فنحن لا نريد شعارات وكلمات بعيدة عن الواقع والمُثل العليا، وإنما نريد سلوكا وعملا وأخلاقا تُحتذى. ويجب أن تكون الكلمة صادرة من القلب، وتتميز بالصدق؛ فما خرج من القلب وصل إلى القلب.
وهنا ستؤثر تأثيرا فعالا وإيجابيا على المجتمع ككل، وكذلك الصانع والزارع كل في مجال عمله يجب أن يكون قدوة لنفسه ولمن حوله، ولا يطلب الالتزام من غيره وهو غير ملتزم، ولا ينادي غيره بالسير في الطريق القويم وهو بعيد عنه، ولا يطلب الأمانة من غيره وهو غير أمين، ولا يدعو إلى الصدق وقول الحق وهو كاذب، ولا يهتف بالعدل وهو ظالم، ولا يأمل في الرحمة وهو غليظ القلب تجردت حياته من أبسط ألوان الرحمة والشفقة!!
إن فاقد الشيء لا يعطيه؛ فليكن كل شخص قدوة أمام نفسه ولكل من حوله، ويراقب الله في كل أفعاله قبل النظر إلى الغير ومحاسبة الآخرين وإعطاء الأوامر لهم.
"أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ" (البقرة: 44).
ولقد منحنا الله -عز وجل- البلسم الشافي والدواء المعافي لكل أمور حياتنا، وهو هدية الله رب العرش العظيم إلى العالمين "القرآن الكريم"؛ لنتخذه نبراسا يضيء لنا الطريق، وشعاعا ينير لنا الحياة، ويكشف لنا عن حقيقة كل شيء نبحث عنه.
شموس لا تغيب
ولقد دعانا الله رب العالمين في كتابه العظيم إلى الاقتداء برسوله الكريم محمد صلى الله عليه وسلم في جميع أموره وشئون حياته، وأن نأخذه مثلا أعلى وأسوة حسنة نقتدي بها، متمسكين مؤمنين بالله عز وجل، مقتدين بالأخلاق الكريمة التي دعانا الله -عز وجل- إلى التحلي بها، آملين في عونه ورحمته، راجين أن يشملنا بلمسات حنانه الكبرى؛ فنأمن شر الطريق، ونسلم من شياطين الإنس والجن الذين يعيثون في الأرض فسادا، ونسير جنبا إلى جنب مع المؤمنين الصالحين الذين يحبون الله وكل شيء في هذا الوجود؛ لأنه صُنع الله، وأثر من آثار رحمته وحنانه وحبه وعطفه الشامل، والذين يجاهدون في هذه الأرض لمحاربة الفساد والطغيان على الظلم، آملين انتشار النور والأمان والاستقرار دون النظر إلى أي مصلحة ذاتية أو رغبة شخصية وإنما يعملون ويجاهدون حبا ومرضاة الله عز وجل ونصرة لدين الله. "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ" (محمد: 7)، "إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آَمَنُوا" (الحج : 38 ).
إن القدوة الطيبة شمعة يملكها كل فرد، ويستطيع أن يضيئها؛ فتضاء حياته، كما يستطيع أن يطفئها؛ فتنطفئ شمس حياته. وإني أعتقد أنه لو حرص كل إنسان على أن يؤدي واجبه بالصورة المثلى التي تؤهله لأن يكون قدوة لغيره؛ فإننا سنكون بذلك من أفضل المجتمعات، وسيمنُّ الله علينا بالفتح والبركات، ليس العيب في الظروف ولا الأيام؛ فالأيام تحمل كل الخير وكل الرخاء، ولكن العيب في أنفسنا؛ فلنسارع لإصلاح نفوسنا، ونترجم هذا الإصلاح عمليا في الأخلاق والسلوك والعمل " إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ" (الرعد: 11). فنجني ثمار هذا الإصلاح، ويعم بلادنا الرخاء والرفاهية والتقدم؛ فتهدأ نفوسنا، وتطمئن وترتقي حياتنا.
اللهم اجعلنا من المؤمنين الصالحين الذين يمشون على الأرض هونا، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما، الذين يتخذون من كتاب الله مثلا أعلى يقتدون به، ويتخذون رسول الله محمدًا صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة يتأسون بها، واهدنا إلى العمل الصالح الذي ترضاه لنا؛ فنكون قدوة طيبة لأنفسنا ولمن حولنا، وأَنرْ بصيرتنا، وأعِنَّا على مَن ظَلَمنا، واحمنا من شر أنفسنا وشر الناس، ونجنا من همزات الشياطين، واصرف عنا عذاب جهنم، واشملنا بلمسات حنانك وآيات رحمتك يا أرحم الراحمين يا رب العالمين.
ودمتم على طاعة الرحمن وعلى طريق الخير