على الرغم مما كتب عن ابن تيمية، وهو
بالقياس إلى أعماله ومواقفه وشخصيته الفذة يعدّ قليلاً، إلا أن هذا الجانب من جوانب
نشاطه المتعدد الأوجه لم يظهر فيما كتب عنه؛ فلم يشر المؤلفون الذين تناولوا شخصيته
وأعماله بالدراسة والبحث إلى ما بذله من جهود مخلصة من أجل إصلاح أوضاع السجون،
وجعل أحول المسجونين أقل قسوة مما كانت عليه في الظروف التي سادت مصر والشام في
نهاية القرن السابع، وبداية القرن الثامن الهجريين؛ أثناء حكم المماليك هذين
البلدين.
ولعل ذلك يرجع إلى سببين، أولهما: أن الذين درسوا شخصية وأعمال ابن
تيمية ليسوا من المهتمين بالنظم العقابية، ومن ثم فإن جهوده من أجل إصلاح أحوال
المسجونين، وتخفيف المعاناة عنهم لم تلفت نظرهم.
أما السبب الثاني فهو أن
تلك الجهود التي بذلها ابن تيمية في هذا الصدد لم ترد فيما وضعه من كتب ومؤلفات،
وهي كثيرة، أو لعلها وردت في بعض كتبه التي لم تصل إلينا وهي كثيرة أيضاً، حيث ذكر
ابن تغري بردي أن مصنفات ابن تيمية بلغت خمسمائة مجلد؛[1] لم يصل إلينا منه إلا عدد
قليل ربما لا يزيد عن خمسين مجلداً.
أثره الواضح في أعمال الملك الصالح
الإصلاحية
ومع ذلك فإن تلك الجهود ليست من الخفاء بحيث يفوت الدارسين
ملاحظتها؛ ففيما كتبه عنه المؤرخون أمثال ابن كثير والمقريزي وابن تغري بردي الكثير
الذي يمكن أن نستخلص منه مواقف ابن تيمية المشرفة من أحوال المسجونين السيئة،
ومساعيه الذاتية من أجل تخفيف المعاناة عنهم، وما بذله من جهود لدى الملك الناصر
محمد بن قلاوون لكي يصلح من أوضاع السجون، ويهتم بأحوال المسجونين؛ وهي الجهود التي
ظهرت آثارها واضحة فيما قام به الملك الصالح من أعمال؛ تعد في جملتها حركة إصلاح
شاملة للسجون؛ تضمنت فيما تضمنته بذل المزيد من الرعاية للمسجونين سواء بإطلاق سراح
أعداد كبيرة منهم، أو بتحسين أحوال من بقي مسجوناً لعدم قضائه المدة المحكوم بها
عليه.
أسباب وشواهد
واعبتار ابن تيمية المشير بهذه الإصلاحات ليس من قبيل
الاستنتاج؛ ذلك لأنه توجد كثير من الشواهد التي تجعل القول بغير ذلك ضرباً من
التحكم. ومن هذا الشواهد:
أولاً: أن ابن تيمية، على خلاف من عاصرهم من فقهاء
وعلماء، كان يتمتع بصفات افتقر إليها سواه؛ مثل الجرأة في مواجهة الأوضاع غير
الصحيحة، والشجاعة التي ليس لها نظير عند مواجهة الحكام فيما يعتقد أن حق انحرفوا
عنه، أو باطل مالوا إليه، وموهبته الأصيلة في النقد، مع ما كان يتمتع به من بصيرة
نافذة وبعد نظر.
ثانياً: أنه عانى من الحبس أكثر من مرة، وخبر السجون وعرف
ما يجري بداخلها من أمور لا يقرها الشرع ولا يقبلها العرف، وعلى الرغم من أن حبسه
كان في بعض المرات في قصر أو في قاعة حسنة نظيفة في إحدى القلاع، إلا أنه حُبس ذات
مرة في سجن »الجبّ« بقلعة صلاح الدين في القاهرة سنة 705 هـ، وذلك في ولاية الملك
الناصر محمد بن قلاوون الثانية، حيث قضى في هذا الحبس المهول عامين، ثم أفرج عنه
سنة 707 هـ.
ثم حددت إقامته في دار ابن شقير في القاهرة؛ حتى نفاه الملك
المظفر بيبرس الجاشنكير إلى الاسكندرية، وكان قد تولى الملك سنة 708 هـ عقب خلْع
ابن قلاوون لنفسه للمرة الثانية، فظل ابن تيمية مقيماً بالإسكندرية حتى عاد [ابن]
قلاوون إلى القاهرة حين استرد عرشه للمرة الثالثة سنة 709 هـ، فبعث في طلب ابن
تيمية، حيث اجتمع به وتبادل معه الرأي في كثير من الأمور، وكان ابن تيمية كعادته
صريحاً جريئاً.
ثالثاً: أنه منذ عودة ابن تيمية من منفاه في سنة 709 هـ وإلى
حين رجوعه إلى دمشق في سنة 712 هـ كان بصحبة ابن قلاوون، أو على اتصال دائم بهذا
الملك الذي أصدر خلال هذه الفترة القصيرة كثيراً من الأوامر والمراسيم التي أبطل
بها أوضاعاً فاسدة كان ابن تيمية قد وجه إليها نقداً شديداً؛ مثال ذلك الرشوة، ففي
سنة 711 هـ أصدر الملك محمد بن قلاوون أمراً بأن لا يُولّى أحد بمال ولا
برشوة.
ويقول ابن كثير: »وكان سبب ذلك الشيخ تقي الدين بن
تيمية.«[2]
تأثير ابن تيمية على ابن قلاوون في أعماله الإصلاحية
ليس ذلك
وحسب، بل إن ابن قلاوون أبطل أيضاً رسوم الولايات والمقدمين والنواب والشرطية،
والتي كانت تجبى من عرفاء الأسواق وبيوت الفواحش.[3] ويقول ابن تغري بردي: »وأبطل
ما كان يأخذه مهتار[4] طشتخاناه السلطان من البغايا والمنكرات والفواحش« وكانت جملة
مستكثرة.
كذلك منع ابن قلاوون الخمر وعاقب شاربيها بشدة، وكان ابن تيمية
يعيب على الحكومة تهاونها مع شاربي الخمر، ويقوم أحياناً بمهاجمة الأماكن التي تباع
فيها، ويعاقب شاربيها بشدة.
وفضلاً عن هذه الشواهد التي تؤيد ما ذهبنا إليه
من أن ابن تيمية كان وراء حركة الإصلاح العقابي التي قام بها ابن قلاوون، والتي
سنلقي الضوء عليها فيما بعد، فإن هناك مستشرقاً فرنسياً هو الأستاذ »هنري لاووست«
الذي قضى أكثر من ثلاثين سنةفي دراسة عصر المماليك، والحنابلة، وابن تيمية بوجه
خاص، وترجم كتاب »السياسة الشرعية« إلى الفرنسية، وقدم له بمقدمة قيمة، يرجح أن ابن
تيمية صنّفه ما بين سنة 709 و 712 هجرية، في أعقاب استدعاء ابن قلاوون له من منفاه
بالإسكندرية، وبناء على طلب من هذا الملك كما فعل هارون الرشيد مع أبي
يوسف.
ويرى »هنري لاووست« بالاستناد إلى ما كتبه ابن كثير في »البداية
والنهاية« أن هناك مطابقة واضحة بين الخطط المرسومة في كتاب »السياسة الشرعية«
والإصلاحات المقترحة فيه، والتدابير والإصلاحات التي قام بها محمد بن قلاوون في
التاريخ نفسه.[5]
سجن ابن تيمية لم يحدّ من نفوذه العلمي وتأثيره
الوجداني
وعلى الرغم من أ ن الملك الناصر محمد بن قلاوون، كان قد أمر بحبس
ابن تيمية أربع مرات كان آخرها سنة 726 هـ حيث سجن في قلعة دمشق إلى أن توفي سنة
728 هـ، إلا أن ذلك لم يكن عن حقد أو كراهية بالفقيه الكبير والمفكر العظيم، وإنما
كان لخلاف في الرأي، ولعدم التزام ابن تيمية بما أمره به ابن قلاوون من الامتناع عن
الفتيا في مسألة الطلاق، وبتحريض من الفقهاء الذين كانوا يخالفون ابن تيمية في
آرائه.
وإذا كان ابن تيمية قد توفي في سنة 728 هـ فإن تأثيره في ابن قلاوون
ظل قائماً حتى وافت المنية هذا الملك سنة 741 هـ، حيث إن السياسة التي أشار عليها
بها بشأن السجون ظلت مستمرة منذ أول أمر أصدره في سنة 711 هـ بالإفراج عن
المسجونين، وألا يؤخذ من كل مسجون إلا نصف درهم، كما أصدر أمراً آمر يقضي بإطلاق
سراح الأشخاص الذين سُخّروا غصباً في بعض الأعمال.
أوضاع السجون في عهد ابن
تيمية
وزيادة في الوضوح سنبين للقارئ ما كانت عليه أوضاع السجون أيام ابن
تيمية حتى يمكن أن ندرك طبيعة وأهمية الإصلاحات التي أشار بها ابن تيمية على ابن
قلاوون.
على الرغم من أن السجون كانت تتبع الدولة من حيث كونها أماكن يودع
فيها الأشخاص؛ سواء الذين صدرت بحقهم أحكام بالحبس، أو الذين حبسوا على سبيل
التوقيف، أو ما يسمى بالحبس الاحتياطي. كما أن حراسة هذه الأماكن كان يعهد بها إلى
الشرطة إلا أن إدارتها في الداخل والإشراف على نزلائها من الوجوه كافة كان يعهد به
إلى ضامن يتولى الإنفاق عليها مما يحصله من المسجونين، ويؤدي للحاكم مبلغاً من
المال سنوياً، وكان يوجد فضلاً عن هذا الضامن أشخاص يسمون »مُقْطَعين« بعدد السجون؛
أن أنه كان يجمع لكل سجين »مقطع« مهمته إدارة السجن لحساب الضامن؛ الذي كان غاية
همه أن يحصّل أكبر قدر من المال من المسجونين، ضارباً عرض الحائط بما هم عليه من
فقر وفاقة، وقد اختلف الرأي فيما كان الضامن يحصله من كل مسجون.
فبينما يقول
ابن تغري بردي: إنه كان على كل شخص يورجع في السجن ولو للحظة واحدة أن يدفع للضامن
مائة درهم، بالإضافة إلى الغرامة التي يلزم بدفعها، وكان الضامن يحصلها لحساب
الحكومة، فإن المقريزي في »السلوك« يقول: إن هذا المبلغ كان ستة دراهم يدفعها
للضامن، وليس مائة درهم.
وسواء أكان المبلغ مائة درهم أو ستة دراهم فإن الذي
لا شك فيه أن هذا اليس هو كل ما كان يتقاضاه الضامن من المسجونين، وإنما كان يتقاضى
أضعافه من القادرين.
أما الفقراء فإنه كان يسخرهم في بعض الأعمال التي تعود
عليه بدخل كبير، غير عابئ بما يتحمله هؤلاء من أذى وما يصيبهم من ضرر.
ومن
ثم فإن إلغاء ابن قلاوون لهذا النظام يعد من قبيل الرجوع إلى الأصل، وهو قيام
الدولة بالإشراف على السجون ورعايتها للمسجونين حماية لهم من استغلال الضمّان؛ وهو
ما عليه الحال الآن في السجون القائمة.
ولقد سبق أن ذكرنا أن ابن قلاوون
أصدر مرسوماً في سنة 714 هـ يقضي بألا يؤخذ من كل مسجون إلا نصف درهم فقط، أي أنه
بدأ أولاً بتحديد ما يجب على الضامن أن يأخذه من المسجونين بنصف درهم، ثم تلا ذلك
إلغاء نظام الضمان تماماً، وربما يكون السبب راجعاً إلى عدم التزام الضامن بهذا
التحديد لما يحق له أن يأخذه، وحصوله على مبالغ أكبر، ربما تكون قد وصلت إلى ما
ذكره ابن تغري بردي، أي: مائة درهم في بعض الأحوال، ولم تقلّ عن ستة دراهم في أدنى
الأحوال كما ذكر المقريزي.
ولم يقف ابن قلاوون في سعيه إلى إصلاح أحوال
المسجونين إلى هذا الحد، بل قطع شوطاً آخر لا يقل عن الشوط السابق أهمية: ذلك بأنه
التفت إلى سجن »الجبّ« الذي كان بقلعة الجبل قبيح المنظر، شديد الظلمة، كريه
الرائحة، فأصدر أمره سنة 729 هـ بردمه، لما عرفه من أن المحابيس يمرون به بشدائد
عظيمة، فردِم وعمّر فوقه طباق للمماليك السلطانية.
وقد عُمِل هذا الجب في
سنة 681 هـ أيام الملك المنصور قلاوون.
ويقول المقريزي في »خططه«: إن كان
بالقلعة جب يحبس فيه الأمراء، وكان مهولاً مظلماً كثير الوطاويط كريه الرائحة؛
يقاسي المسجونون فيه ما هو أشد من الموت؛ عمّره الملك المنصور قلاوون سنة 681 هـ
إلى أن أمر الملك الناصر محمد بن قلاوون بإخراج من كان فيه من المحابيس ونقلهم إلى
الأبراج وردمه، وعمّر فوق الردم طباقاً (غرفاً) للمماليك في سنة 729
هـ.
ويقول المقريزي: إن المسجونين كانوا يودعون في هذا السجن عن طريق
التدلية فيه، أي أنهم يربطون بحبل ويدلون فيه، حتى إذا استقروا في قاعه بقوا فيه
إلى ما شاء الله؛ وكان الطعام والشراب يدلّى إليهم كذلك.
كذلك أزال الملك
الناصر محمد بن قلاوون السجن الذي كان يسمى بـ (خزانة البنود) وأقام مكانه منزلاً
خصصه لسكنى الأمراء من الفرنج مع أولادهم؛ وقد سمي السجن بـ (خزانة البنود) لأنه
أقيم مكان أحد المخازن، وكانوا يسمونه خزانة، ويضعون فيه السلاح أو الأعلام وتسمى
بنوداً، وكان يسجن فيه الأمراء والأعيان.
ولم تقتصر جهود ابن قلاوون في مجال
إصلاح السجون على سجون الأمراء، حيث إن كلاً من سجن الجب، وسجن خزانة البنود كانا
مخصصين للأمراء والأعيان، بل إن جهوده شملت السجون التي يودع فيها أرباب الجرائم من
السرّاق وقطاع الطريق ونحوهم، مثل السجن المسمى بـ (حبس المعونة) في القاهرة، حيث
كان يوجد سجن آخر بالاسم نفسه في مصر (مصر القديمة الآن) ويقول المقريزي عن هذا
السجن: إنه كان حرجاً ضيقاً شنيعاً يشم من قربه رائحة كريهة، فلما ولي الملك الناصر
محمد بن قلاوون مملكة مصر هدمه وبناه قيسرية للعنبر.
وهكذا نجد أن الملك
الناصر محمد بن قلاوون كان يتبع إزاء المجرمين سياسة حكيمة ومنهجاً سليماً، فهو لا
يقاوم الجريمة بالسجون الموحشة والعقوبات المهلكة، وبزيادة عدد السجون ولا يقيم
مكانها غيرها.
وفي الوقت نفسه يصدر الأمر تلو الأمر بالإفراج عن المسجونين،
ويقاوم عوامل الإجرام بحزم وقوة، ويضرب للناس المثل، ويجعل من نفسه قدوة صالحة لهم،
فيلتزم بما أمر به الله تعالى، وينتهي عما نهى عنه،ويقول عنه ابن تغري بردي: إنه
كان على غاية من الحشمة والرياسة وسياسة الأمور، فلم يضبط عليه أحد أنه أطلق لسانه
بكلام فاحش في شدة غضبه، ولا في انبساطه، مع عظيم ملكه وطول مدته في السلطة وكثرة
حواشيه وخدمه، وكان مع هذه الشهامة وحب التجمّل مقتصداً في مجلسه لا يتحلى بالذهب،
وكان لا يشرب الخمر، ويعاقب عليه، ويبعد من يشربه من الأمراء عنه؛ وكان في الجود
والكرم والإفضال غية لا تدرك، خارجة عن الحدود، ولم يشهر عنه أنه ولى قاض في أيامه
برشوة، ولا محتسب ولا وال؛ بل كان هو يبذل لهم الأموال، ويحرضهم على عمل الحق ويعظم
الشرع الشريف. اهـ
فلا عجب إذا قام بهذه الإصلاحات في مجال العقوبة فضلاً عن
كثير غيرها في شتى المجالات من عسكرية وسياسية وإدارية وزراعية وقانونية
وغيرها.
ولذلك فإن ابن تغري بردي لم يكن مبالغاً حين وصفه بأنه أعظم ملوك
الترك (المماليك) مهابة وأغرزهم عقلاً، وأحسنهم سياسة، وأكثرهم دهاءً، وأجودهم
تدبيراً، وأقواهم بطشاً وشجاعة، وأحدقهم تنفيذاً.
فإذا اجتمعت هذه الصفات
كلها في ملك، ووُجد إلى جانبه عالم عظيم وفقيه كبير مثل ابن تيمية رحمه الله،
اجتمعت فيه شروط الاجتهاط على وجهها، كما قال فيه كمال الدين بن الزملكاني غريمه
اللدود، فهل تعجب إذا امتدتجهود الإصلاح إلى كل ميدان بما في ذلك ميدان الجريمة
والعقوبة؟
تم التثبيت