قارة الصناهجة هي أحد المواقع الأثرية بوادي حضرموت، وتقع في الطرف الجنوبي الشرقي لمنطقة تاربة، وتبعد عن مدينة سيئون بنحو 25 كيلو مترا شرقا. والقارة في اللغة تعني الأكمة وهي الجبل الصغير وقال اللحياني : هي الجبل الصغير المنقطع عن الجبال، حيث تمتد أطلال تلك القارة فوق عدد من المرتفعات الصغيرة التي ترتفع بعض أجزائها إلى قرابة (40 متراً) عن مستوى السهل المجاور.
عبد الحكيم العامري-اليمن .
وتنسب القارة إلى قبيلة الصناهجة التي كانت تسكنها. وكلمة الصناهجة قد حرفت في بعض كتب التاريخ الحضرمية فأحيانا حرف الصاد إلى سين (السناهجة) أو إلى الشين - الشناهجة- وحرف الجيم إلى زاي - الصناهز- وأحيانا كثيرة يشار إلى الصناهجة باسم الشناهز.
وقبيلة الصناهجة قد تلاشت تماما، إذ لا وجود لها في القارة بل في مناطق حضرموت كافة باستثناء بيت آل السنهي وهم أفراد قلائل يسكنون منطقة الغرف المجاورة لها ويعتقد أنهم من بقايا تلك القبيلة العريقة.
وحول هذا التلاشي يروي السكان المجاورون نقلا عمن سبقوهم إن سكان قارة الصناهجة قد دخلوا في خلاف مع سكان قرية مسلمة الواقعة جنوب شرق منطقة بعلال وهي اليوم أطلال أيضا، وكان سبب الخلاف الاختلاف على حدود الأرض الزراعية ومجاري السيول الواقعة بينهما، وازداد حقد أهالي بيت مسلمه على ما ينعم به أهالي قارة الصناهجة من خيرات زراعية وأرادوا الاستحواذ عليها، فنصبوا كميناً للصناهجة وكان يوم جمعة، فعندما خرج الصناهجة للصلاة بأحد المساجد الواقعة بالرملة أسفل القارة من جهة الشرق -قد مسحت الآثار الموجودة بالرملة في السبعينيات من القرن العشرين من قبل مشروع استصلاح الأراضي الزراعية - هجموا على المصلين من الصناهجة ودارت حرب غير متكافئة طرف يحمل السلاح وآخر بدونه، وبذلك أبيدت قبيلة الصناهج.
ومع ضعف هذه الرواية إلا إننا أوردناها من باب الأمانة العلمية ولدحضها بالرواية الصحيحة في رأينا.
حيث يذكر ابن الحكم في كتابه تاريخ مصر إن قبيلة الصناهجة هاجرت من وادي حضرموت إلا من بعض المخلفين على حد قوله، تلبية لنداء الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه لفتح الشام مع قبائل يمنية أخرى لبت نداء الخليفة من عموم اليمن وفي مقدمتها يافع الحميرية والمعافر. وهاجر رجال تلك القبائل وبرفقتهم أهلهم وأموالهم حتى لايشغلهم بعدهما عنهم عن الجهاد. وبعد فتح الشام دخلت صنهاجة مصر في جيش الزبير بن العوام، ثم اشتركت في فتح ليبيا (برقة) تحت قيادة معاوية بن حديج الكندي الحضرمي، ثم اشتركت في فتح تونس تحت قيادة الفاتح العظيم حسان بن النعمان الغساني اليمني الملقب بالشيخ الأمين، ثم عادت فروع من صنهاجة إلى مصر بعد فتح دنقلة بشمال السودان واستقرت في الفيوم وفي بوصير .
واستقر الصناهجة ببلاد المغرب العربي بعد فتحها ووصل بعض رجال الصناهجة إلى مراتب رفيعة فيها نذكر منهم أبو الفتوح سيف الدولة يوسف بن مناد الصنهاجي مؤسس الإمارة الصنهاجية بتونس، وشرف الدولة بن باديس بن المنصور الصنهاجي الحميري.
واحتلت قارة الصناهجة مكانة عظيمة بين مدن حضرموت حين كانت عامرة بأهلها لكثرة علمائها وفقهائها، وحتى بعد أن هاجر منها أهلها ظلت محل مطمع للقوى الحضرمية، فتذكر لنا المصادر بعض الوقائع التاريخية التي شهدتها القارة ومنها أنه في سنة 598هـ وقعت معركة الشناهز على نهد».
والشناهز هنا مقصود بهم الصناهجة كما أشرنا سابقا وهم من الذين بقوا بالديار ولم يهاجروا. ويعتقد أن قبيلة نهد كانت غازية تريد السيطرة على القارة مستغلة قلة سكانها من أجل جعلها موطئ قدم لها في الجهة الشرقية لوادي حضرموت.
وفي سنة 748هـ سيطر عليها أحمد بن يماني بن عمر بن مسعود بن يماني على إثر تفاهم حصل بينه وبين أهلها لم تذكر المصادر التاريخية التي وقفنا عليها تفصيلا عنه.
وفي سنة 791هـ سيطر عليها راصع بن دويس، وفيه دلالة على سرعة تقلب أحوالها.
وتعد القارة اليوم موقعا أثريا تحكي أطلاله عن أمجاد عظيمة لم ترو المصادر المكتوبة منها إلا الشيء اليسير جدا.
وصور لنا الشاعر عبيد عبود في قصيدته التي تناولت ذكر العديد من القرى والمدن الحضرمية ما آلت إليه حال القارة بقوله:
والقارة أمست عجوزا ثوبها لمدم
من بعد ما كأنها ترجش بلجحال
ويقول فيها الشيخ سعد بن علي مدحج الملقب بسعد السويني:
مسكينة القارة من التوتان
ومست عريا وعريها بان
وتبلغ مساحة القارة الأثرية نحو ( 350 * 150 مترا )، ويكتسب موقعها أهمية اقتصادية وعسكرية، فمن الناحية الاقتصادية روعي في اختيار الموقع خصوبة التربة التابعة لها ومرور السيول بتلك الأرض لريها حيث يمر بها سيل وادي باكعيت وهو أحد روافد وادي تاربة.
أما من الناحية العسكرية فقد وفر ارتفاع القارة الحماية لسكانها ومراقبة المنطقة المجاورة، كما إن الجبل الملتصقة به وفر لها الحماية الطبيعية من جهة الغرب.
وتتضمن القارة عدداً من المباني التي يزيد عددها عن المئة أهمها القلعة الواقعة في الجانب الجنوبي الشرقي والتي شيدت بالطين المخلوط بالقش (التبن) فوق ساس من الحجارة وقد طليت بعض جدرانها بالجص (النورة) وأخرى بالطين، وكانت تلك القلعة مقراً للحاكم الصنهاجي.
وتكونت بعض الأبنية من دورين وأكثر وتميزت بوجود الأعمدة (الأسهم) الطينية بداخلها، كما وجدت بها النوافذ الطولية والمربعة والمشاويف الصغيرة، ووجود عدد من الرفوف داخل الغرف محفورة على الجدران تأخذ أشكالا مربعة وثلاثية الشكل ومقوسة، وطليت جدران وقيعان الحمامات بالجص (النورة)، كما تميزت بعض تلك المنازل بوجود مصلى صغير بداخلها.
وتوجد بالقارة بعض الآبار التي حفرها السكان بجوار بعض المساجد والمنازل لتأمين مياه الشرب والاستخدام اليومي للماء كالوضوء والغسل وغيرها، وأبرز تلك الآبار البئر التي حفرت في أعلى القارة بجوار القلعة وحفر تلك البئر بعمق كبير على تلك الصخور يدل على الإرادة القوية لسكان القارة في ظل ضعف الإمكانيات في ذلك الوقت.
وتضم القارة عدداً من المساجد ستة منها آثارها باقية إلى اليوم تختلف مساحتها، وتتشابه من حيث البناء العمراني تقريبا، وأهمها المسجد الذي يقع في الجهة الشمالية وهو مسجد مستطيل الشكل أبعاده (15.50 * 17.30 مترا) ويبلغ سمك جدرانه (40سم) ماعدا جدار القبلة فإن سمكه يبلغ (80سم) وله مدخلان الأول في الجهة الشرقية والآخر في الجهة الشمالية ويحيط به فناء في جانبيه الشرقي والجنوبي. ويوجد إلى جانب هذا المسجد مسجد صغير من جهة الجنوب يعتقد بأنه كان مخصصاً للنساء، وفي المسافة الواقعة بين المسجدين توجد الحمامات وبئر كانت تستخدم مياهها للوضوء.
ومن الآثار الباقية للمسجد الأول منبر يوجد حاليا بمتحف الآثار بمدينة سيئون وقد صنع ذلك المنبر من خشب السدر سنة 673ه ويبلغ ارتفاعه (1.40متر) وعرضه (73سم) , ويتألف من أربع درجات تتراوح ارتفاعاتها بين (22- 25سم) وتوجد على مسند المنبر كتابة قد محيت بعض أجزائها تقرأ كالتالي:
«محمد وأحمد وحسين بن علي بن سالم أمر تشييد المشهد في سنة ثلاث وسبعين وست مائة (673هـ)».
وتوجد بالقارة وحولها ثلاث مقابر لازالت باقية إلى اليوم الأولى واقعة في الجهة الشمالية الغربية وتبعد عن القارة بنحو (250متر) تقريبا ويعتقد أنها المقبرة الأولى للقارة إذ توجد بها قبور لا توجد عليها شواهد مكتوبة وأما المقبرة الثانية فتقع في الجهة الجنوبية وتبعد عن القارة بنحو (40متر) تقريبا وتوجد على قبورها شواهد محفورة عليها كتابات يعود تاريخ أقدمها إلى سنة (1037هجرية)، وعدد كبير من المقبورين فيها من الأسر العلوية . أما المقبرة الثالثة فتقع جهة الشرق وهي المقبرة التي لازال يستخدمها سكان القارة الحديثة الحاليين.
وأخيرا إن قارة الصناهجة وأثارها جديرة بأن تحظى بالاهتمام وأن تجرى عليها الدراسات والبحوث العلمية والتنقيبات الأثرية لاستكشاف ما تخفيه في جعبتها من أخبار وحقائق تاريخية.
إحالات
(1) محمد بن مكرم بن منظور : لسان العرب . دار صادر، بيروت، الطبعة الأولى، الجزء الخامس، ص 121 .
(2) هود سالمين عبيد: قارة الصناهجة. مجلة الوادي، يصدرها نادي الأحرار بتا ربة، العدد 36، ص 25 .
(3) مقابلة مع الشيخ سعيد بن كرامة العامري، منطقة تاربة , 18 ديسمبر 2006م .
(4) محمد عبد القادر بامطرف: ملاحظات على ماذكره الهمداني عن جغرافية حضرموت. دار الهمداني للطباعة والنشر، عدن، الطبعة الأولى ,1984م، ص 18, 19.
(5) المرجع نفسه . ص، 19.
(6) عبد الرحمن بن عبيد الله السقاف: معجم بلدان حضرموت المسمى إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت. تحقيق إبراهيم أحمد المقحفي وعبد الرحمن حسن السقاف، مكتبة الإرشاد، صنعاء، الطبعة الأولى 2002م. ص 454.
(7) محمد بن هاشم: تاريخ الدولة الكثيرية. مصر , الجزء الأول , 1948م , ص 14 .
( السقاف: المرجع السابق، ص 454 .
(9) روبرت سار جنت: شعر ونثر من حضرموت. ترجمة: سعيد محمد دحي، مطبوع بالا ستنسل . ص 11 .