افتتح متحف النسيج الأثري مكان"سبيل محمد علي"، الذي يقع في القاهرة
الفاطمية بالقرب من باب زويلة، هذا السبيل أنشأه محمد علي باشا العام 1244
هـ، 1828م، على روح ولده إسماعيل باشا، المتوفى بالسودان العام 1238هـ
1822م، ويعد هذا السبيل حالياً، ومتحف النسيج لاحقاً، أحد أجمل عناصر
العمارة الإسلامية بالقاهرة التاريخية، وأحد أدق النماذج الفنية الجميلة
التي تزخر بها مصر، حيث يعبر عن حقبة تاريخية مهمة في تاريخها، كما يمثل
أحد طرز المباني الإسلامية.
نشأة السبيل.. كان السبيل منشأة تعليمية خيرية في الأساس، تعمل على خدمة
المجتمع، وهذه الخدمات جعلت القيمة الوظيفية للأثر من أهم القيم التي أسهمت
في استمرارية وجوده وتألقه، وتحول هذا السبيل إلى مدرسة سميت "مدرسة
النحاسين الأميرية"، إلى أن ساءت حالته بالعوامل الجوية والزمنية وتهدم،
إلا أن وزارة الثقافة المصرية عندما بدأت مشروع تطوير القاهرة التاريخية في
منطقة الجمالية شرعت في تحويل "مدرسة النحاسين" أو "سبيل محمد علي" إلى
"متحف نسيج"، وقد أخذ المتحف مرحلتين، الأولى تطويره كأثر، والثانية تطويره
كمتحف متخصص أوحد في الشرق الأوسط للنسيج، يضم تاريخ صناعة النسيج منذ
بداية العصور الفرعونية، مروراً بالعصرين اليوناني والروماني، بالإضافة إلى
فنون النسيج القبطي ثم الأموي، علاوة على العصور: العباسي والطولوني
والأيوبي، كذلك يضم المتحف نسيجاً من العصرين العثماني والمملوكي وبعض
الطرز، خاصة الطراز الإيراني الصفوي والعراقي واليمني وكسوة الكعبة
المشرفة.
قماش بانورامي.. تستخدم طرق حديثة للعرض المتحفي مثل "الديوراما"، وهي
عبارة عن أنوال وخيوط مصبوغة لبيان كيفية الغزل والنسيج، كذلك الجرافيك،
وهو عبارة عن صور من كل عصر مع شرح لها، بالإضافة إلى وجود أدوات صناعية
أثرية من العصرين الفرعوني والبطلمي والفن القبطي والإسلامي وقوالب خشبية
للطباعة على النسيج، وأيضاً توجد بالمتحف شاشات لمساعدة الزائر على إضافة
أي معلومة عن أي قطعة من المتحف وشرحها باللغتين العربية والإنجليزية، ويتم
عرض جولة بانورامية بالمتحف عن صناعة النسيج وطرقه وصباغته والأماكن
المشهورة بصناعة الغزل والنسيج، مع عرض أفلام عن المتحف قبل وبعد التطوير.
مصر اشتهرت منذ أقدم عصورها بصناعة المنسوجات الكتانية في العصر الفرعوني، نظراً لرقتها ونعومتها التي تقارب نعومة الحرير.
فكانت المنسوجات والملابس ضمن الهدايا المتبادلة بين فراعنة مصر وملوك
العالم القديم، وبرع القدماء في غزل ونسج وصباغة ألياف الكتان منذ عصورهم
المبكرة، فعرفوا التراكيب النسيجية المختلفة من النسيج السادة والقبطي
والنسيج الوبري، بالإضافة إلى تمكنهم من تطريز منسوجاتهم، وبخاصة الملكية
منها، بالأساليب المختلفة من التطريز بشغل الأميرة والتطعيم بالأقمشة،
واستخدام الخرز، وعجينة الزجاج الملونة، كذلك استخدام الحليات الذهبية، بعد
ذلك امتدت شهرة المنسوجات المصرية في العصر البطلمي "323م-30ق.م" وهذا ما
أكده وصف الروائيين القدماء للمعلقات والأغطية والوسائد التي زين بها
بطليموس الثاني خيمة الاستقبال الرسمية لزواره، كما احتوى قصره على معلقات
بالحجم الطبيعي أبهرت زواره من فرط واقعيتها.
مصانع نسيج ملكية
في العصر الروماني "30ق.م- 325م" أنشأ الأباطرة الرومانيون مصانع
"الجينيسوم"، التي كانت تعرف بمصانع النسيج الملكية بمدينة الإسكندرية،
وكانت هذه المصانع توجد في أحياء خاصة.
حيث كانت النساء تقوم بالنسج والتطريز لإنتاج ما يحتاجه البلاط الملكي من
أقمشة، ومع انتشار المسيحية في مصر "325 ق.م- 641م" حدث امتزاج طبيعي بين
الموروثات القائمة والرؤية الفنية النابعة من العقيدة المسيحية، أخرجت لنا
من جديد دمجاً بين الفن المصري والروماني في روحانية ورمزية وتجريدية في
أغلب الأحيان، وقد عبرت المنسوجات القبطية عن هذا الفن الجديد بصورة واضحة.
حيث تميزت بغزارة عناصرها الزخرفية ذات الألوان البراقة، والتي نفذ معظمها
بأسلوب القباطي أو اللحمات غير الممتدة، وهو أسلوب أقرب إلى التطريز منه
إلى النسج؛ حيث أتاح هذا الأسلوب للتصوير شبه المجسم للبورتريهات المنسوجة
التشابه مع الرسوم الكلاسيكية القديمة.
وذلك للألوان المتدرجة باستخدام خيوط الصوف المصبوغة، ومن المعروف أن خيوط
الصوف تسهل صباغتها بدرجات لونية متدرجة تدوم وتحتفظ ببريقها، والتي أنتجت
في ورش خاصة لتصنيع الصوف، وقد اهتم الأمراء المسلمون بإنشاء مصانع
النسيج التي عرفت بـ"دور الطراز" أي "الكتابة على النسيج والورق".
اللوحات الموجودة بالمتحف متعددة، منها جزآن من قطعة نسيج ملونة من الأسرة
الـ18، عصر تحتمس الرابع "1400- 1390ق.م"، مقاسها 8 .18 سم-11-5 .3 سم،
وهي كتان غير مصبوغ وكتان مصبوغ باللونين الأحمر والأزرق، وقد وجدت
بالأقصر في مقبرة تحتمس الرابع، وهاتان القطعتان نسجتا بطريقة القباطي
بمهارة فائقة مصبوغة باللونين الأحمر والأزرق، وتحمل جزءاً من اسم جدة
الملك تحتمس الثالث ويرجح أنهما من رداء احتفالي موروث عبر الأسر.
غرز وألوان
تظهر الدقة واضحة في التفاصيل والرسوم، على القطع الموجودة بالمتحف، ويغلب
على الرسوم اللون الأخضر بدرجاته على أرضية حمراء والإطار الخارجي بألوان
مختلفة على أرضية بيضاء، هناك أيضاً قطعة مطرزة من النسيج "مصر القرن
6-7م" صوف ملون 18 ـ 17سم، وهي قطعة من النسيج مطرزة برسم نصفي لامرأة
داخل دائرة ترتدي قرطاً والرأس مغطى بجلدية شعر ملتفة، وتاج يخرج من حلية
متماثلة، علاوة على قطعة من نسيج الكتان بزخارف منسوجة بالحرير عبارة عن
سطرين متعاكسين من الكتابات الكوفية يحصران بينهما شريطاً زخرفياً يضم رسوم
طيور ويقرأ من السطرين.. "وفتح قريب لعبد الله ووليه نزار أبي المنصور
العزيز بالله أمير المؤمنين صلوات الله عليه "مصر العصر الفاطمي القرن 5هـ -
11م"".
فرس النهر
حجرة أخرى بالمتحف وجدنا بها قطعة من نسيج الصوف عليها رسم فرس النهر
بالألوان الأصفر والأخضر والأزرق من مصر تتبع العصر الطولوني 3 هـ-9م، وهذه
قطعة من نسيج الحرير باللون الأزرق عليها زخارف منسوجة عبارة عن مناطق
بيضاوية بداخلها رسوم نباتية وكتابات نسخية باسم الملك الناصر محمد بن
قلاوون، وهي من العصر المملوكي القرن 8هـ-14م، وفي جانب آخر سجادة صلاة
للتعليق من الحرير الأحمر المطرز بالقصة المموهة بالذهب بأشكال نباتية،
وخلفية السجادة من الحرير الأخضر أهداه محمد علي باشا، رأس العائلة
المالكة، إلى كريمته المرحومة زينب هانم، والدة المهدية، عند زفافها، وهي
من القرن الـ11-12هـ - 17-18م".
كسوة الكعبة
وهذه درة تاج المتحف، قطعة رائعة من كسوة الكعبة "ستارة باب التوبة"،
مستطيلة الشكل، عليها زخارف نباتية، وكتابات قرآنية مطرزة بخيوط فضية
بأسلوب "السيرما".
ويعد الطواف حول الكعبة من أهم أركان الحج، وطبقاً للتقاليد المتبعة منذ
زمن بعيد، فإن الكعبة تغطى بثوب من القماش الأسود يعرف بـ"الكسوة"، ويتم
تغييره كل عام خلال احتفال مهيب يقام بهذه المناسبة، وهناك ستائر أيضاً من
اللون الأسود مزينة بالحرير المقصب والأشرطة والزركشات والنقوش المصنوعة
من خيوط الذهب والفضة، وتغطى الحوائط الخارجية بثماني ستائر من الجوخ،
اثنتان منها في كل ركن من الأركان الأربعة.
جدير بالذكر أن متحف النسيج هو أول وأكبر متحف متخصص لعرض المقتنيات
الأثرية للنسيج في الشرق الأوسط، فبه كمية كبيرة من قطع النسيج حضرت عن
طريق أعمال الحفريات، وأخرى جاءت من المتاحف الإسلامية والقبطية وقصر
الجوهرة، ومن حفائر الفسطاط ومخازن الأقصر والبر الغربي؛ لتقف أمام الزائر
ناطقة بزخارف وبألوان وبصمات الأيدي التي نسجت هذه الخيوط من مئات السنين
بل آلافها.