كانت الأوس قد
استعانت ببني قريظة والنضير في حروبهم التي كانت بينهم ، وبلغ ذلك الخزرج ،
فبعثت إليهم : إن الأوس فيما بلغنا قد استعانت بكم علينا ، ولن يعجزنا أن
نستعين بأعدادكم وأكثر منكم من العرب ، فإن ظفرنا بكم فذاك ما تكرهون ، وإن
ظفرتم لم ننم عن الطلب أبداً ، فتصيروا إلى ما تكرهون ، ويشغلكم من شأننا
ما أنتم الآن منه خالون ، وأسلم لكم من ذلك أن تدعونا وتخلوا بيننا وبين
إخواننا.
فلما سمعوا ذلك علموا أنه الحق ، فأرسلوا إلى الخزرج : إنه قد كان الذي
بلغكم ، والتمست الأوس نصرنا ، وما كنا لننصرهم عليكم أبداً ، فقالت لهم
الخزرج : فإن كان ذلك كذلك فابعثوا إلينا برهائن تكون في أيدينا ، فبعثوا
إليهم بأربعين غلاماً منهم ، ففرقهم الخزرج في دورهم ، ومكثوا بذلك مدة.
ثم إن عمرو بن النعمان البياضي قال لقومه بياضة : إن أباكم أنزلكم منزل سوء
بين سبخة ومفازة ، وإنه والله لا يمس رأسي غسل حتى أنزلكم منازل بني قريظة
والنضير على عذب الماء وكريم النخل ، ثم راسلهم : إما أن تخلوا بيننا وبين
دياركم نسكنها ، وإما أن نقتل رهنكم ، فهموا أن يخرجوا من ديارهم ، فقال
لهم كعب بن أسد القرظي : يا قوم ، امنعوا دياركم وخلوه يقتل الرهن ، والله
ما هي إلا ليلة يصيب فيها أحدكم امرأته حتى يولد له غلام مثل أحد الرهن ،
فاجتمع رأيهم على ذلك ، فأرسلوا إلى عمرو بألا نسلم لكم دورنا ، وانظروا
الذي عاهدتمونا عليه في رهننا فقوموا لنا به ، فعدا عمرو بن النعمان
البياضي على رهنهم هو ومن أطاعه من الخزرج فقتلوهم ، وأبى عبد الله بن أبي
وقال : هذا عقوق ومأتم وبغي ، فلست معيناً عليه ، ولا أحد من قومي أطاعني ،
وخلى عمن عنده من الرهن.
فناوشت الأوس الخزرج يوم قتل الرهن شيئاً من قتال غير كبير ، واجتمعت قريظة
والنضير إلى كعب بن أسد القرظي ، ثم تآمروا أن يعينوا الأوس على الخزرج ،
فبعثت إلى الأوس بذلك ، ثم أجمعوا عليه ، على أن ينزل كل أهل بيت من
النبيت- وهو حي في الأوس- على بيت من بنى قريظة ، فنزلوا معهم في دورهم. ثم
أرسلوا إلى سائر الأوس في الحرب والقيام معهم على الخزرج ، فأجابوهم إلى
ذلك.
فاجتمع الملأ منهم ، واستحكم أمرهم ، وجدوا في حربهم ، فلما سمعت الخزرج
اجتمعوا حتى جاءوا عبد الله بن أبي ، وقالوا له : قد كان الذي بلغكم من أمر
الأوس وأمر قريظة والنضير واجتماعهم على حربنا ، وإنا نرى أن نقاتلهم ،
فإن هزمناهم لم يحرز أحد منهم معقله ولا ملجأه حتى لا يبقى منهم أحد.
فلما فرغوا من مقالهم قال لهم عبد الله : إن هذا بغي منكم على قومكم وعقوق ،
والله ما أحب أن رِجلاً – أي جماعة - من جراد ألفيناهم ، وقد بلغني أنهم
يقولون هؤلاء قومنا منعونا الحياة أفيمنعوننا الموت ؟ والله إني أرى قوماً
لا ينهون أو يهلكوا عامتهم ، وإني لأخاف إن قاتلوكم أن ينصروا عليكم لبغيكم
عليهم ، فقاتلوا قومكم كما كنتم تقاتلونهم ، فإذا ولوا فخلوا عنهم ، فإذا
هزموكم فدخلتم أدنى البيوت خلوا عنكم ، فقال له عمرو بن النعمان البياضي :
انتفخ والله سحرك - وهي عبارة تقال للجبان، أي ملأ الخوف قلبه -يا أبا
الحارث حين بلغك حلف الأوس وقريظة والنضير. فقال عبد الله : والله لا
حضرتكم أبداً ، ولا أحد أطاعني أبداً ، ولكأني أنظر إليك قتيلاً تحملك
أربعة في عباء.
وتابع عبد الله رجال من الخزرج ، واجتمع كلام الخزرج على أن رأسوا عليهم
عمرو بن النعمان البياضي ، وولوه أمر حربهم ، ولبث الأوس والخزرج أربعين
ليلة يتصنعون للحرب ، ويجمع بعضهم لبعض ، ويرسلون إلى حلفائهم من قبائل
العرب ، فأرسلت الخزرج إلى جهينة وأشجع ، وأرسلت الأوس إلى مزينة ، وذهب
حضير الكتائب الأشهلى إلى أبي قيس الأسلت ، فأمره أن يجمع له أوس الله ،
فجمعهم له أبو قيس ، فقام حضير ، فاعتمد على قوسه ، وعليه نمرة تشف عن
عورته ، فحرضهم ، وأمرهم بالجد في حربهم ، وذكر ما صنعت بهم الخزرج من
إخراج النبيت ، وإذلال من تخلف من سائر الأوس في كلام كثير ، وجعل كلما ذكر
ما صنعت بهم الخزرج يستشيط ويحمى ، فأجابته أوس الله بالذي يحب من النصرة
والمؤازرة والجد في الحرب.
ثم اجتمعت الأوس مرة أخرى ، فأجالوا الرأي ، فقالوا : إن ظفرنا بالخروج لم
نبق منهم أحداً ، ولم نقاتلهم كما كنا نقاتلهم. فقال حضير : يا معشر الأوس ،
ما سميتم الأوس إلا لأنكم تؤسون الأمور الواسعة – أي تعالجون الأمور- .
ثم طرحوا بين أيديهم تمراً ، وجعلوا يأكلون، وحضير الكتائب جالس وعليه بردة
له قد اشتمل بها الصماء ، وما يأكل معهم، ولا يدنو إلى التمر غصباً وحنقاً
، فقال : يا قوم ، اعقدوا لأبي قيس بن الأسلت ، فقال لهم أبو قيس: لا أقبل
ذلك ، فإني لم أرأس على قوم في حرب قط إلا هزموا وتشاءموا برياستي.
ثم جاءتهم أوس مناة ، وقدمت مزينة ، فانطلق حضير وأبو عامر الراهب إلى أبي
قيس ، فقالوا : جاءتنا مزينة واجتمع إلينا من أهل يثرب مالا قبل للخزرج به ،
فما الرأي إن نحن ظهرنا عليهم : الإنجاز أم البقية ؟ فقال أبو قيس:
اقتلوهم حتى يقولوا : بزابز – وهي كلمة كانوا يقولونها إذا غلبوا- . ثم
اختلفوا في ذلك ، فأقسم حضير ألا يشرب الخمر ، أو يظهر ويهدم مزاحماً : أطم
عبد الله بن أبي . ثم لبثوا شهرين يعدون ويستعدون.
وكان اللقاء ببعاث ، وحشد الحيان فلم يتخلف عنهم إلا من لا ذكر له ، ولم
يكونوا حشدوا قبل ذلك في يوم التقوا فيه. فلما رأت الأوس الخزرج أعظموهم
وقالوا لحضير : يا أبا أسيد ، لو حاجزت القوم ، وبعثت إلى من تخلف من
حلفائك من مزينة ؟ فطرح قوساً كانت في يده ثم قال : أنتظر مزينة، وقد نظر
إليّ القوم ونظرت إليهم ! الموت قبل ذلك. واقتتلوا قتالاً شديداً ، فانهزمت
الأوس حين وجدوا مس السلاح ، فولوا مصعدين في حرة قورى – موضع في نواحي
المدينة - ، فنزل حضير ، وصاحت بهم الخزرج: أين الفرار ، فلما سمع حضير طعن
بسنان رمحه فخذه ، ونزل وصاح: وعقراه والله لا أريم حتى أقتل فإن شئتم يا
معشر الأوس أن تسلموني فافعلوا ، فتعطفت عليه الأوس ، وقام وعلى رأسه
غلامان من بني عبدالأشهل ، وهما يومئذ معرسان ذوا بطش ، فقاتلا حتى قتلا ،
وأقبل سهم حتى أصاب عمرو بن النعمان البياضي رأس الخزرج فقتله ، لا يدرى من
رمى به.
ثم انهزمت الخزرج ، ووضعت الأوس فيهم السلاح ، وصاح صائح : يا معشر الأوس ،
أسجحوا ولا تهلكوا إخوتكم، فتناهت الأوس وكفت عن سلبهم بعد إثخان فيهم ،
وسلبهم قريظة والنضير.
وحملت الأوس حضيراً من الجراح التي به ، وهم يرتجون حوله يقولون :
كتيبة زينها مولاها ................................................لا كهلها هد ولا فتاها
وجعلت الأوس تحرق على الخزرج نخلها ودورها. ثم خرج سعد بن معاذ الأشهلي ،
حتى وقف على باب بني سلمة وأجارهم وأموالهم جزاء لهم بيوم الرعل – الرعل
مال لعبد الأشهل ، ويوم الرعل يوم كانت فيه بنو سلمة أغارت على مال لبني
عبد الأشهل وقاتلوهم ، فجرح سعد بن معاذ الأشهلي جراحة شديدة ، فاحتمله بنو
سلمة إلى عمرو بن الجموح الخزرجي فأجاره وأخاه وأجار الرعل من الحريق وقطع
الأشجار، فلما كان يوم بعاث جازاهم سعد -.
وأقسم كعب بن أسد القرظي: ليذلن عبد الله بن أبي ، وليحلقن رأسه تحت حصنه
مزاحم. فناداه كعب : انزل يا عدو الله ، فقال عبدالله : أنشدك الله ! ما
خذلت عنكم. فسأل عما قال ، فوجده حقاً ، فرجع عنه.
وخرج حضير الكتائب وأبو عامر الراهب حتى أتيا أبا القيس بن الأسلت بعد
الهزيمة ، فقال له حضير : يا أبا قيس ، إن رأيت أن نأتي الخزرج قصراً قصراً
وداراً داراً ، نقتل ونهدم حتى لا يبقي منهم أحد ! فقال أبو قيس : والله
لا نفعل ذلك ، فغضب حضير وقال : ما سميتم الأوس إلا لأنكم تؤسون الأمر
أوساً ، ولو ظفرت الخزرج بمثلها ما أقالونا. ثم انصرف إلى الأوس فأمرهم
بالرجوع إلى ديارهم.
وثقل على حضير الجرح ، فذهب به كليب بن عبدالأشهل إلى منزله ، فلبث عنده أياماً ، ثم مات.
وعاد أبو قيس بن الأسلت إلى امرأته ،بعد أن مكث في الحرب أشهراً آثرها على
كل شيء ، حتى شحب لونه وتغير ، فدق الباب ففتحت له ، فأهوى إليها بيده
فدفعته وأنكرته ، فقال : أنا أبو قيس ، فقالت : والله ما عرفتك حتى تكلمت .