ثم ارتحل الحارث مع
قومه، حتى نزل مع جماعة بكر بن وائل، وعليهم يومئذ الحارث بن همام، فقال
الحارث بن عباد له : إن القوم مستقلون قومك ، وذلك زادهم جرأة عليكم ،
فقاتلهم بالنساء ، قال له الحارث بن همام : وكيف قتال النساء ؟ فقال : قلد
كل امرأة إداوة من ماء ، وأعطها هراوة ، واجعل جمعهن من ورائكم ، فإن ذلكم
يزيدكم اجتهاداً ، وعلموا قومكم بعلامات يعرفنها ، فإذا مرت امرأة على صريع
منكم عرفته بعلامته فسقته من الماء ونعشته ، وإذا مرت على رجل من غيركم
ضربته بالهراوة فقتلته ، وأتت عليه.
فأطاعوه، وحلقت بنو بكر يومئذ رؤوسها، استبسالاً للموت ، وجعلوا ذلك علامة
بينهم وبين نسائهم ، وقال جحدر بن ضبيعة- وإنما سمي جحدراً لقصره - : لا
تحلقوا رأسي ، فإني رجل قصير ، ولا تشينوني ، ولكن أشتريه منكم بأول فارس.
يطلع عليكم من القوم، فطلع ابن عناق فشد عليه فقتله.
واقتتل الفرسان قتالا شديداً ، وانهزمت بنو ثغلب ، ولحقت بالظعن بقية يومها
وليلتها ، واتبعهم سرعان بكر بن وائل ، وتخلف الحارث بن عباد ، فقال لسعد
بن مالك : أتراني ممن وضعته الحرب ! فقال : لا ، ولكن لا مخبأ لعطر بعد
عروس.
وأسر الحارث مهلهلاً بعد انهزام الناس وهو لا يعرفه، فقال له: دلني على
المهلهل. قال: ولي دمي ؟ فقال: ولك دمك، قال: ولى ذمتك وذمة أبيك ؟ قال:
نعم ، ذلك لك. قال المهلهل- وكان ذا رأي ومكيدة- : فأنا مهلهل خدعتك عن
نفسي ، والحرب خدعة، فقال : كافئني بما صنعت لك بعد جرمك ودلني على كفء
لبجير ، فقال : لا أعلمه إلا امرأ القيس بن أبان ، هذاك علمه. فجز ناصيته
وأطلقه ، وقصد امرئ القيس فشد عليه فقتله .
فلما رجع مهلهل بعد الوقعة والأسر إلى أهله جعل النساء والوالدان
يستخبرونه: تسأل المرأة عن زوجها وابنها وأخيها، والغلام عن أبيه وأخيه ،ثم
إن مهلهلاً قال لقومه : قد رأيت أن تبقوا على قومكم ، فإنهم يحبون صلاحكم ،
وقد أتت على حربكم أربعون سنة ، وما لمتكم على ما كان من طلبكم ، فلو مرت
هذه السنون في رفاهية عيش لكانت تمل من طولها ، فكيف وقد فني الحيان وثكلت
الأمهات ويتم الأولاد ، ورب نائحة لا تزال تصرخ في النواحي ، ودموع لا ترفأ
، وأجساد لا تدفن ، وسيوف مشهورة ، ورماح مشرعة ، وإن القوم سيرجعون إليكم
غداً بمودتهم ومواصلتهم ، وتتعطف الأرحام حتى تتواصوا ، أما أنا فما تطيب
نفسي أن أقيم فيكم، ولا أستطيع أن أنظر إلى قاتل كليب، وأخاف أن أحملكم على
الاستئصال ، وأنا سائر عنكم إلى اليمن.
ثم خرج حتى لحق بأرض اليمن، فخطب إليه أحدهم ابنته فأبى أن يفعل، فأكرهوه
وساقوا إليه أدَماً في صداقها فأنكحها إياه ، وكان قد بلغ قبائل بكر وتغلب
زواج سليمى في مذحج ، وكان بين القومين منافسة ونفور، فغضبوا وأنفوا،
وقصدوا بلاد القوم فأخذوا المرأة وأرجعوها إلى أبيها بعد أن أسروا زوجها.
وملت جموع تغلب الحرب فصالحوا بكراً، ورجعوا إلى بلادهم ، وتركوا الفتنة ،
ولم يحضر المهلهل صلحهم ، ثم اشتاق إلى أهله وقومه ، ولجت عليه ابنته سليمي
بالمسير إلى الديار ، فأجابها إلى ذلك ، ورجع نحو قومه ، حتى قرب من قبر
أخيه كليب ، وكانت عليه قبة رفيعة ، فلما رآه خنقته العبرة ، وكان تحت بغل
نجيب، فلما رأى البغل القبر في غلس الصبح نفر منه هارباً ، فوثب عنه
المهلهل ، وضرب عرقوبيه بالسيف ، وسار بعد ذلك حتى نزل في قومه زماناً ،
وما وكده – أي قصده - إلا الحرب ، ولا يهم بصلح ، ولا يشرب خمراً ، ولا
يلهو بلهو ، ولا يحل لأمته ، ولا يغتسل بماء ، حتى كان جليسه يتأذى منه من
رائحة صدأ الحديد.
فلما كان ذات يوم دخل عليه رجل من تغلب اسمه ربيعة بن الطفيل، وكان له
نديماً، فلما رأى ما به قال : أقسمت عليك أيها الرجل لتغتسلن بالماء البارد
، ولتبلن ذوائبك بالطيب ! فقال المهلهل: هيهات ! هيهات ! يا بن الطفيل ،
هبلتني إذا يميني ، وكيف باليمين التي آليت ! كلاً أو أقضي من بكر أربى ،
ثم تأوه وزفر .
ونقض الصلح، وعادت الحرب، ثم إن المهلهل أغار غارة على بنى بكر، فظفر به
عمرو بن مالك أحد بنى قيس بن ثعلبة، فأسره وأحسن إساره، فمر عليه تاجر يبيع
الخمر - وكان صديقاً للمهلهل- فأهدى إليه وهو أسير زقاً من خمر، فاجتمع
شبان من قيس بن ثعلبة ونحروا عنده بكراً، وشربوا عند مهلهل في بيته الذي
أفرد له ، فلما أخذ فيهم الشراب تغنى مهلهل بشعر ناح فيه على أخيه.
فلما سمع عوف ذلك غاظه وقال: لا جرم إن الله على نذراً، إن شرب عندي قطرة
ماء ولا خمر حتى يورد الخضير – أي لا يشرب شيئاً قبل خمسة أيام -، فقال له
أناس من قومه: بئس ما حلفت ! فبعثوا الخيول في طلب البعير فأتوا به بعد
ثلاث أيام، وكان المهلهل مات عطشاً.